العلم نور

” العلم ” انها حقيقة حين لم يعها ولم يعرفها الحكماء والفلاسفة تاهوا وضلوا وضاعوا. حتى قال البعض إن العلم يطرأ على نفس الانسان؛ اي بمعنى ان النفس البشرية شبيهة بلوح معدني حساس تنطبع عليه صور الاشياء، كالاشرطةالحساسة والافلام التي تستخدم اليوم في التقاط الصور عبر آلة التصوير. فهي تتحسس النور حال سقوطه عليها فتنطبع الصورة المطلوبة، ومن ثم وعبر مراحل أخرى تجرى عليها تأثيرات كيمياوية بمواد إظهارية تظهر الصورة؛ ثم تعكس على ورق حساس آخر فتبدو للعيان صورة الشيء. هكذا شبهوا نفس الانسان بأنها حساسة تتأثر بالمؤثرات الخارجية فتنطبع عليها الاشياء، وبالتالي يحصل العلم بها. وهذا هو الذي عبروا عنه بالوجود الذهني، اي ان ذهن الانسان فيه وجود من الاشياء، وهنا كان الوقوع في المأزق، فراحوا يدورون في حلقة مفرغة. فهم يتساءلون عن هذا الوجود الذهني هل هو منطبق مع الوجود الخارجي ام لا ؟ فان قيل : لا ؛ فكيف يعلم ما لاينطبق مع معلومه؟ وإن قيل: نعم؛ يواجهون حينها مقولة ان الوجود الذهني من مقولة الكيف والوجودات الخارجية من مقولات شتى بعضها عرض وبعضها جوهر وبعضها زمان وبعضها مكان.. ولعل مثالاً بسيطاً يوضح لنا هذا المعنى الذي لا يخلو عن شيء من التعقيد، فنقول : الماء غير الهواء وهما غير عنصر الاوكسجين، وهذا غير يوم الجمعة، إذ يوم الجمعة من مقولة الزمان والماء من مقولة الجوهر، وبرودة الماء من مقولة العرض وصغر حجم الماء وكبره من مقولة الكيف، وهذه أمور مختلفة شتى. وعلى قول الفلاسفة فأن النفس البشرية من مقولة الكيف، فكيف إذن تجتمع في النفس البشرية مقولة العرض ومقولة الزمان ومقولة المكان ومقولة الجوهر، وهذه كلها مختلفة مع طبيعة النفس ؟ قال الفيلسوف المعروف الملا هادي السبزواري في منظومته الشعرية :

والذات من انحاء الوجود قد حفظ جمــــع المقابلتيــــن منــه قـد لحــظف جـوهر مع عرضٍ كيـف اجتمـع ام كيف تحت الكيف كلّ قد وقع؟

فهو يتساءل : كيف تجتمع المقولات المختلفة في النفس البشرية ؟

ولكي يجيبوا عن هذا التساؤل، اتجه كلٌ اتجاهاً، ونحا منحى خاصا به ؛ فبعضهم قال : الموجود في الخارج غير الموجود في ذهن الانسان، وبعض قال بتحوّل الموجود في الخارج حينما يدخل في ذهن الانسان، وبعض نفى كلا الاتجاهين وقال : العلم إن هو إلا إشراقة النفس وانبساطها على الموجودات الخارجية، وقالوا : ان النفس البشرية لها امتدادات وتموجات، وحين تتموج النفس وتصل الى الموجودات الخارجية. فذلك يعني العلم.

هذه الاقوال ربما تجر قائلها الى الشرك وتدخله في الكفر، إذ لو كان العلم هو دخول الاشياء في ذهن الانسان فكيف يدخل علم الله ؟ هل يدخل الوجود والموجودات في ذات الله القدوس السبوح المنزّه الذي هو أكبر من أن يوصف. الله الذي يسبح له ما في السماوات والارض،إن من شيء إلا يسبح بحمده، وهل تدخل الموجودات الناقصة المستهجنة في ذات الله ؟ إذن هذا هو الشرك بعينه، وهذا هو الكفر بذاته. لكن الانسان حين يرتفع عن مثل هذا التفكر الحضيض، ويتجّنب السقوط في هاوية الشرك، يدرك ان العلم لا هذا ولا ذاك، وانما هو انكشاف الاشياء للنفس البشرية عبر نور الهي.

هناك من الفلاسفة من يقول بأن النفس البشرية ذاتها علم. ونتسائل: لو قلنا ان النفس البشرية ذاتها علم، فهل يمكن حينئذ القول بان العلم من الله سبحانه ؟ لكنهم مهما قالوا ومهما احتجّوا على ذلك نراهم يضطرون للاعتراف بخطـأ هذا التفكر حين يرجعون الى فطرتهم والى وجدانهم، إذ لوكانت ذات الانسان هي العلم فلماذا يجهل الانسان الاشياء، وبتعبير آخر لكان الانسان يعلم كل شيء. ثم لوكان الحال كما يقولون لماذا ينسى الانسان نفسه بالذات ويجهلها، ذلك لانه بفطرته وبوجدانه يعرف أنه ليس العلم وانه لا يعلم كل شيء { وَمَآ اُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } الاسراء/85  ،كما إنه يعرف بوجدانه وفطرته انه ينسى نفسه أحياناً كثيرة، فالله سبحانه وتعالى يقول: { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّه. فَاَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ اُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر/19)، فهو ينساها حالة النوم وينساها حالة الغفلة، ولو كانت النفس هي العلم لكان من المستحيل ان ينسى الانسان نفسه

وآخرون يقولون بأن العلم صورة في الذهن، ونحن نتساءل عن الضمانة. بمعنى ان الانسان حين يعلم الاشياء كيف يضمن أنها تنطبق مع الحقائق الخارجية، فلو عرضت عليه صورة شخص ما وقيل له هذه صورة فلان، الذي لم يسبق له رؤيته، اتراه يصدق هذا الادعاء ؟ كلا بالطبع، لانه لا يستطيع تطبيق الصورة المعروضة عليه مع الحقيقة الخارجية، وهو ذلك الانسان الذي لم يره قط.

وهنا نعود فنقول : لوكان العلم صورة في ذهن الانسان او في نفسه دون انكشاف الاشياء بصورة مباشرة ؛ فما هي الضمانة بانطباق وتوافق هذه الصورة مع الحقائق الخارجية ؟ وهذا ما دفع البشر لاستحداث علم سمّوه بالمنطق، ولعل هذا اللغز كان اساس استحداث علم المنطق،وان تنوع فيما بعد فظهر على الساحة بمسمّيات عديدة كمنطق ارسطو الشكلي ومنطق ديكارت ومنطق كونت ومنطق ماركس وغيرها. لكن مع هذا كله لازالت البشرية تخطئ، فهذه المناهج العلمية لن تنفع إلاّ القليل، لان الحل يكمن في ان العلم يكشف الاشياء بصورة مباشرة ويظهرها للانسان، وليست صور الاشياء هي التي تنطبع في ذهن الانسان.