لماذا لا يكون عند الشيعة كتاب يحتوي على الأحاديث الصحيحة فقط, كما لأهل السنة صحاح ؟
الجواب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إنّ ما تفضّلتم به في سؤالكم يتوقف على فهم المرتكزات الأساسية التي ابتنى عليها التشيع الممثل للسنة النبوية, وفهم مرتكزات الأطروحة السنية, وبالتالي نفهم الجواب على السؤال.
وإليكم جزء يسير وخلاصة للجواب :
إن الشيعة ـ واقتداءً بأئمتهم (عليهم السلام) الذين أسّسوا علم الدراية وعلم الرجال ـ باب الاجتهاد عندهم مفتوح على مصراعيه, ولم يقف على عالم أو شخص, والائمة (عليهم السلام) بينوا الضوابط التي تؤخذ بها الرواية عند توفرها, وترد عند عدم وجودها, كقولهم (عليهم السلام) : ( ما خالف قول ربنا فهو زخرف ), وكقوله (عليه السلام) عند تعارض الروايات : ( خذ بالمجمع عليه بين اصحابك واترك الشاذ النادر ), وغير ذلك من الروايات التي أوضحت بأن هناك من يكذب على الأئمة, وأن هناك من يدس ويزور .
فألّف علماء الشيعة ـ في الزمن القديم المتاخم لزمن الأئمة, وبعضهم في زمن الأئمة ـ كتب الرجال لبيان الثقة من غيره, وبيان الرواة واحوالهم .
وبما أن باب الاجتهاد مفتوح عند علماء الشيعة, والعالم الشيعي له رأيه في كل راوي وكل رواية, فكان هناك اختلاف في النظر والتوثيق والتضعيف, فقد يوثق أحد العلماء راو معين لأدلة خاصة عنده, بينما نرى عالماً آخر لا يوثق هذا الراوي أو يتوقف فيه, لأدلته الخاصة ومناقشته أدلة من وثقه, وهكذا إذا كثر العلماء تكثر الآراء وتختلف تبعاً لطبيعة الاجتهاد الذي فتحه الأئمة لعلماء الشيعة, الذين يتولون الامور بعدهم.
فعلى ذلك, إذا أراد عالم من العلماء تأليف كتاب صحيح, كصحيح الكافي مثلاً, فلا يمكنه أن يلزم به علماء الشيعة الآخرين, لأن كل عالم له نظره الخاص واجتهاده المبني على الأصول والقواعد الذي قد يخالف فيه ذلك العالم, وبالتالي فما يراه ذلك العالم الذي ألّف صحيح الكافي صحيحاً لا يرى العالم الآخر صحة كل ما فيه, بل يرى فيه بعض الروايات الضعاف, وترجع المسألة إلى عدم صحة هذا الكتاب من أوله إلى آخره عند العلماء, ولا يمكن الزام العلماء بمبنى واحد, لأن معنى ذلك غلق باب الاجتهاد الذي فرغنا عن كونه لم يغلق .
أضف إلى ذلك : أن هناك روايات صحيحة عند علماء الشيعة كثيرة ومتفقين على صحتها, وهي أكثر من روايات أهل السنة, فهذا (الكافي) الذي يحتوي على أكثر من (16) ألف رواية, يصرح العلماء بوجود روايات صحيحة فيه أكثر من (4) الاف رواية, وهذا الكافي لوحده ! بينما إذا رجعنا إلى صحيح البخاري وجدنا فيه (4) آلاف رواية مع حذف المكرر, فما بالك بكتب الرواية الأخرى كالاستبصار والتهذيب ومن لا يحضره الفقيه وغيرها من كتب الحديث ؟!
وهناك من ألف من العلماء كتباً لجمع الصحيح والحسن من الروايات, ككتاب ( منتقى الجمان في الاحاديث الصحاح والحسان ) لابن الشهيد الثاني, لكن يبقى أيضاً تحت نظر الفقيه الآخر ومدى قبوله للروايات من حيث التصحيح والتضعيف .
وأما منهج مدرسة الخلفاء, أي المنهج السني, فهو يحتاج إلى بيان كيفية بنائه والأسس التي سار عليها, والتي بعد معرفتها نرى المشاكل التي وأجهها علم الحديث عندهم بعد منع أبو بكر وعمر بن الخطاب تدوين الحديث ( تذكرة الحفاظ 1/3ـ5, البخاري ج 6 ب الاستئذان, سير اعلام النبلاء 2/601, كنز العمال 10/183, فتح الباري المقدمة ص 6 ) الى غيرها من المصادر الكثيرة جداً .
ثم مجيء دولة بني أمية وتدوين الحديث, الى أن ظهرت آلاف الكتب التي تحدث عن النبي (صلى الله عليه وآله), إلى أن ظهر لنا البخاري المولود سنة 194هـ, والذي أوعز أنه شرع في تأليف صحيحه وهو في سن السادسة عشر! ( تاريخ بغداد 2/14 )، والف كتابه, ثم جاء القوم بعده وقلدوه فيما قاله من أن هذا الكتاب كله صحيح من أوله إلى آخره, وكذلك ألّف تلميذه مسلم بن الحجاج صحيحه, مدعياً نفس دعواه, وجاء من بعدهم معتمداً على كلامهم ـ والسياسة لها دخل أيضاً ـ بان كل ما فيهما صحيح, فلذلك انسدّ باب الاجتهاد في روايات صحيح مسلم والبخاري من حيث توثيق الرواة ومن حيث الرواية, فكل رواية وردت فيهما فهي مقبولة .
وهذه هي النكتة المائزة, فاذا ألّف مسلم والبخاري كتابيهما ومن يأتي بعدهما لا يناقشهما فيهما فينتج انهما صحيحان, لا غبار عليهما, وهذا هو غلق لسنة النبي (صلى الله عليه وآله) الآمرة بالنظر في الحديث وتمييز الصحيح من السقيم .
وليس ذلك أمراً إيجابياً للفكر السني كما قد يتصور, بل إذا أردنا التعمق أكثر وأكثر ينتج لنا أن المدرسة السنية أضفت العصمة على كتابي مسلم والبخاري, ورفضت سنة النبي (صلى الله عليه وآله) والائمة (عليهم السلام) .
وهناك ملحوظة لابد من أن نلتفت اليها, وهي : إن القوم وان قالوا بصحة روايات البخاري ومسلم, لكنهم في مقام العمل لا يعملون بكل ما في البخاري ومسلم, لوجود التعارض والتضارب بين بعض الروايات التي ينقلها البخاري نفسه أو مسلم نفسه!
كروايات الرضعات الخمس الواردة في صحيح مسلم 4/167.
وكروايات تزوج النبي ميمونة وهو محرم 5/86, مع أنها نفسها تنكر ذلك, ومسلم 4/137 يأتي برواية يجمع فيها بين أن النبي (صلى الله عليه وآله) تزوجها وهو محرم, وبين ان النبي (صلى الله عليه وآله) تزوجها وهو في حل, وفي نفس الجزء ص 138 ينقل الرواية عن ميمونة زوجة النبي (صلى الله عليه وآله) تقول : تزوجني وهو حلال!!
وبالتالي لابد أن تكون إحدى الروايات مخالفة للواقع, لأنه لا يمكن أن نصدقهما معاً, فأين الصحة المدعاة لمسلم والبخاري ؟!
وهناك شواهد كثيرة أغمضنا عن نقلها, تستطيع مراجعتها .
والخلاصة : إن دعوى أنّ كل ما في البخاري ومسلم صحيح لا يعمل بها أهل السنة أنفسهم, لوضوح وجود التضارب بين بعض الروايات التي في نفس البخاري, وبعض الروايات التي في نفس مسلم .
وهناك تفصيلات أخرى يطول الوقت بذكرها, تركناها اختصاراً .
ودمتم في رعاية الله
www.aqaed.com